«سرُّ الشِّعرية هو أن تظلّ دائماً كلاماً ضدّ كلام، لكي تقدر أن تسمّي العالَم وأشياءه، أسماء جديدة، أي تراها في ضوء جديد. اللغة لا تبتكر الشيء وحده، إنما تبتكر ذاتها فيما تبتكره» هكذا يقول أدونيس. ولأنّ الشعرية لا ترتبط بالشعر فقط، بل أيضاً بالأسلوب وفقاً لجاكبسون («فالنصّ هو المجال الحقيقيّ الذي تنعكس فيه الملامح الأسلوبية للكاتب المنشِئ، كما أنّ الأسلوب هو الألَق الشخصيّ لفرادة هذا الكاتب المنشِئ»)، فما الذي ابتكرته لغة إيمان جبل؟ وما الفرادة والألق الشخصيّ الذي قدّمته في رواية «اليد العليا» (منشورات المتوسط)؟

إيمان جبل، شاعرة تكتب الرواية، أو روائية تكتب الشعر، لا فرق هنا بأسبقية أحدهما على الآخر، فالرواية محبوكة خيطاً خيطاً، وعقدة عقدة، لغةً ولعبةً وقضايا.
تبدأ الرواية مع «فاني موسى»، التي يخيّرها ممثّل الجهات العليا بين المنفى والفضيحة، فتختار المنفى. نعرف أنها صانعة أفلام، أحدها أدى بها إلى المنفى. بعدها تعود بنا الرواية إلى «موسى»، الفتى الذي يحكي قصته طفلاً ومراهقاً، ويحكي عن أيامه الجميلة مع والده وعمته، اللذين يموتان بشكل سريع في الرواية، فلا تعطي الفرصة لموسى لكي يحكي عنهما أكثر. أمّا الأم، فمعها تكمن كلّ خبايا النص، التي يبقى المتلقي يلاحقها حتى صفحاته الأخيرة.

لا نحرق الكثير من الأحداث عندما نكشف للقارئ بأنّه بعد انتقال موسى مع والدته إلى بيت آخر ومنطقة أخرى، يكتشف أنّه فتاة تربّت طوال سنواتها العشر على أنّها صبي. صديقه «خوليو» وأخوه الطبيب يوضحان لها/ له كل التفاصيل. ولكنه حين يواجه أمه تنكر الأمر، وتطلب منه السكوت عنه وتهدّده بأنه لن يعيش معها إن أصرّ على ذلك. تمضي أربع سنوات إلى أن يقرر موسى مواجهة الحقيقة، ليصبح «فاني موسى»، الأنثى التي تتخلى أمها عنها، ويحتضنها خوليو وأخوه.
يوهم النصّ المتلقي بأنه أمام رواية تطرح قضايا الجندرية والمثلية، ويوهمه أيضاً بأنه يطرح قضايا العلاقات مع الأم أو الأب وما ينتج منها من حالات نفسية للمرء عندما يكبر. لكن النصّ، وصاحبة النص، الشاعرة، الروائية، كانت سائرة نحو الكثير مما لم يكن في الحسبان.

فاني تعيش علاقة مع «الجرّاح»، الطبيب الذي تخبرنا عن قصتهما معاً وما شابها من صعود وهبوط. ومعه كنا نستكشف أحوال فاني النفسية، ومن بعده «آدم»، زوجها الذي ضحّى بحاجاته الجنسية من أجل أن يكون معها. نهاية الرواية والتجارب والمحاكاة، والمنفى المصطنع من الأم، والشاشة التي تفتح وتُغلق لثلاث دقائق... هل كانت اليقظة التي ترافق من هم في غيبوبة، أم هي يقظة مفتعلة من قبل «الهمج» أصحاب الثورة التي نعرف عنها في نهاية

إيمان جبل... شاعرة تكتب الرواية